جارٍ تحميل التاريخ...

السيرة النبوية – مشهد بيعة الرضوان (1)- ذ. المصطفى زمهنى

السيرة النبوية – مشهد بيعة الرضوان (1)- ذ. المصطفى زمهنى

بسم الله الرحمن الرحيم

بعدما استقر الرسول ﷺ، وصحابته الكرام بالمدينة المنورة، وطاب لهم المقام بها، تحركت في نفسوهم مشاعر الحنين للوطن الأم مكة المكرمة فاشتاقوا إليها، ولزيارتها، فأرى الله تعالى نبيه محمدا ﷺ في منامه رؤيا رأى فيها أنه يشد رحاله معتمرا مع صحبه إلى مكة المكرمة، وهم يطوفون على الكعبة المشرفة، فأخبر صحابته بما رآه، وأمرهم أن يتجهزوا للخروج إلى مكة معتمرين، فلما علمت قريش بخروجهم، رفضوا ذلك، وتجرأ بعض شبابهم على قتال المسلمين، غير أن حكمة النبي ﷺ جنبت الفريقين المواجهة العسكرية موثرة التفاوض والحوار، لذلك أرسل إليهم عثمان بن عفان  ليفاوضهم، غير أنهم تكبروا وتجبروا، فحبسوا عثمان، ومنعوه من الرجوع لأصحابه، فلم يعرف له مصير، وبهذا ذاع خبر مقتله بين الناس، وهو ما حمل النبي ﷺ على أن يجمع صحابته الكرام ليناجزوا قريشا، فبايعوه ﷺ بيعة الرضوان، وهي المشار إليها في قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اَ۬للَّهُ عَنِ اِ۬لْمُومِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ اَ۬لشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِے قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ اَ۬لسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحاٗ قَرِيباٗ﴾ [الفتح: 18].

وهكذا بايع الصحابة الكرام تحت الشجرة رسول الله ﷺ على الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق، وبذل الغالي والنفيس لنصرة دين الحق.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله ﷺ قال حين بلغه أن عثمان قد قتل لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله ﷺ الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون بايعهم رسول الله ﷺ على الموت، وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله ﷺ لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر، فبايع الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها ، إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته، قد ضبأ إليها، يستتر بها من الناس، ثم أتى رسول الله ﷺ أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل”([1]).

إن مشهد بيعة الرضوان غني بالمستفادات والدلالات، ومن شأن استخلاصها، وتمثل معانيها في حياتنا المعاصرة أن يدبر أمورنا، ويرشد علاقاتنا بما يجعلنا نرفل في حلل السعادة، والطمأنينة، والاستقرار.

وسنعرض من هذه الدروس مستفادين اثنين، وهما: أهمية البيعة، وحب الوطن.

_ المستفاد الأول: أهمية البيعة.

يقصد بالبيعة لغة الصفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة([2]). واصطلاحا عرفها ابن خلدون بقوله: “اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمور نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، وأن يطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي، هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع وهو المراد في الحديث في بيعة النبي – ﷺ – ليلة العقبة وعند الشجرة”([3]).

وللبيعة مقام عظيم في الإسلام كما نصت على ذلك النصوص الشرعية كقوله تعالى: ﴿اِنَّ اَ۬لذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَ۬للَّهَۖ يَدُ اُ۬للَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْۖ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦۖ وَمَنَ اَوْف۪ىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهِ اِ۬للَّهَ فَسَنُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماٗۖ﴾ [الفتح: 10]، وقوله ﷺ: “من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية“([4]). وهي واجبة شرعا لانبناء مصالح الأمة عليها، لما ينجم عنها من حراسة الدين، وسياسة الدنيا، في حفظ كليات الدين مما تقوم على أساسه الحياة، بحفظها من جانب الوجود، ومن جانب العدم.

وقد أجاد أبو حامد الغزالي في وصفه لحاجة الناس للسلطان بقوله: “وأما المقدمة الثانية، وهو أن الدنيا، والأمن على الأنفس، والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع، فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين، والأئمة، وإن ذلك لو دام، ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع؛ دام الهرج، وعم السيف، وشمل القحط، وهلكت المواشي، وبطلت الصناعات، وكان كل غلب سلب، ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حيا، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل: الدين، والسلطان توأمان، ولهذا قيل: الدين أس، والسلطان حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع. وعلى الجملة، لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم، وما هم عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء، لو خلوا وآراءهم، ولم يكن لهم رأي مطاع يجمع شتاتهم؛ لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء، فبان أن السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصود الأنبياء قطعاً، فكان وجوب نصب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه، فاعلم ذلك”([5]).

وتاريخ الإسلام ينبئ عن هذه الحقيقة التي اقترن فيها السلطان بالقرآن بدءا من سيرة الرسول الأكرم ﷺ، فتنصيب أول خليفة للمسلمين أبي بكر، ثم عمر، وعثمان، وعلي.

_ المستفاد الثاني: حب الوطن والتعلق بأرضه.

إن حب الوطن من الإيمان والذود عنه من الدين، لذا ناسب أن يكون الرسول الكريم محمد ﷺ مجسدا لهذه الخصلة العظيمة في سيرته العطرة.

فقد كان محبا لمكة متعلقا بجبالها وهضابها ووديانها…، قال عن جبل أحد: “هذا جبل يحبنا ونحبه([6])“، بيد أن اشتداد الأذى عليه وعلى صحبه، جعله يفكر في الهجرة إلى مكان آمن لأداء رسالته وإنجاز مشروعه وبناء دولته، فكانت الوجهة إلى المدينة المنورة التي وجد فيها أنصارا لدعوته المباركة لتصير بعد حين عاصمة له ﷺ يقصدها المهاجرون رغبا وشوقا.

ورغم ما ألفاه ﷺ من نصرة وعون من قبل أهل دار الهجرة، إلا أن مكة موطنه الأصل ظلت تسكن وجدانه ويهوي إليها فؤاده، لذلك قرر أداء العمرة بمكة بالرغم مما وجده من قريش من منع وصد، وهو القائل عن أم القرى: “ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك([7])“. إنه درس عظيم في التعلق بالأرض، وحب الوطن والمواطنة الحقة!

والمواطنة الحقة تقتضي البرور والوفاء للوطن بالتحلي بالسلوك الوطني المثالي المسؤول في حمايته من كل أذى وشر، والإسهام في نفعه بكل فضل وخير، كما جاء خطاب أمير المومنين محمد السادس حفظه الله: “وكواحد من المغاربة، فإن أغلى إحساس عندي في حياتي هو اعتزازي بمغربيتي.
وأنتم أيضا، يجب أن تعبروا عن هذا الاعتزاز بالوطن، وأن تجسدوه كل يوم، وفي كل لحظة، في عملكم وتعاملكم، وفي خطاباتكم، وفي بيوتكم، وفي القيام بمسؤولياتكم. ولمن لا يدرك معنى حب الوطن، ويحمد الله تعالى، على ما أعطاه لهذا البلد، أقول: تابعوا ما يقع في العديد من دول المنطقة، فإن في ذلك عبرة لمن يعتبر. أما المغرب فسيواصل طريقه بثقة للحاق بالدول الصاعدة. إن هذا الاعتزاز بالانتماء للمغرب هو شعور وطني صادق ينبغي أن يحس به جميع المغاربة. إنه شعور لا يباع ولا يشترى، ولا يسقط من السماء، بل هو إحساس نبيل، نابع من القلب، عماده حسن التربية، على حب الوطن وعلى مكارم الأخلاق. إنه إحساس يكبر مع المواطن، ويعمق إيمانه وارتباطه بوطنه. والاعتزاز لا يعني الانغلاق على الذات، أو التعالي على الآخر. فالمغاربة معروفون بالانفتاح والتفاعل الإيجابي مع مختلف الشعوب والحضارات، غير أن تعزيز هذا الإحساس، والحفاظ عليه، يتطلب الكثير من الجهد، والعمل المتواصل، لتوفير ظروف العيش الكريم، لجميع المواطنين، وتمكينهم من حقوق المواطنة، ولكنه يقتضي منهم أيضا القيام بواجباتها([8]) “.

([1]) سيرة ابن هشام 2/ 315، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية 1375هـ – 1955م.

([2]) لسان العرب، مادة بوع.

([3]) مقدمة ابن خلدون 1/ 209.

([4]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر.

([5]) الاقتصاد في الاعتقاد، ص: 128.

([6]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب أحد يحبنا ونحبه، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب أحد جبل يحبنا ونحبه.

([7]) أخرجه الترمذي في سننه، وابن حبان في صحيحه، وغيرهما.

([8]) مقتطف من الخطاب الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية التاسعة.


At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)